وأما رؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه عَزَّ وَجَلَّ فإن من أصرح الأدلة عَلَى امتناعها وعدم وقوعها حديث أبي ذر في الصحيح، وهو سؤال صريح في محل النزاع: وهو أن أبا ذر سأل رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ له: {هل رأيت ربك يارَسُول الله؟ فقَالَ: نور أنَّى أراه} وهذا تصدقه رواية أخرى وهي قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه}.
ومن ذلك أيضاً الحديث المتفق عليه وهو حديث
عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها قالت: "
ثلاث من حدثك بهن فقد أعظم عَلَى الله الفرية" تعني: ثلاثاً عظيمات جداً، والثنتين الأخريين أعظم من هذه؛ لأن هذه قضية خبريه لكن تلكما قضية اعتقادية وهي أهم.
أما الأولى قالت: "من حدثك أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئاً مما أوحى إليه فقد أعظم عَلَى الله الفرية" فرية عظيمة لأن الله -عَزَّ وَجَلَّ-يقول: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)) [المائدة:67] وفي ذلك رد عَلَى الذين يقولون بالعلم الباطن، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختص به بعض الناس، كما يقولون: إن عُمَر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: "كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحدث مع أبِي بَكْرٍ وكنت كالزنجي بينهما" يعني: مثل الأعجمي لا يفهم شيئاً؛ لأنهم يتكلمون في أمور الأحوال والمقامات كما تقول الصوفية.
وكما تقول الروافض أنه كتب العلم في الجفر واختص بهذا الجفر علياً وبعض آل البيت، وهذا الجفر مخبوء وتناقلوه إِلَى جعفر ثُمَّ إلى مُحَمَّد بن الحسن العسكري صاحب السرداب ولا يعلم أحد ما فيه، سُبْحانَ اللَّه!
إذاً: هذا علم مكتوم فهذا من أعظم الفرية عَلَى الله وعلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والقول بأن شيئاً من الشريعة إما باطن وإما العلم اللدني أو الجفر كتمها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا لا بد فيه من أحد أمرين:
إما أن يقول: إن هذا الشيء كتمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي ذلك ما قد قلنا.
وإما أن يكون ذلك خرافة لا أصل لها، وهذا هو الصحيح، وذلك أنه لما سُئل عنه عَلِيّ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "هل خصكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من العلم قَالَ: لا والذي فلق الحبة وبرء النسمة ما خصنا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من العلم"، فالمقصود أن هذه هي الأولى.
وأما الثانية: فهي قولها رَضِيَ اللهُ عَنْها: (ومن أخبرك أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الغيب فقد أعظم عَلَى الله الفرية) لقوله تعالى: ((قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ))[النمل:65].
وقولها: فقد أعظم عَلَى الله الفرية أي: افترى عَلَى الله -عَزَّ وَجَلَّ-افتراءاً عظيماً، إذاً هل الأولياء أو السحرة أو الكهان يعلمون الغيب؟
الجواب: لا. لأنه مادام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب فكيف يعلم الغيب هَؤُلاءِ؟ وأما ما يخبر به الكهان من أمور المغيبات فقد سبق الحديث عنه.
وأما الثالثة: (ومن أخبرك أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه فقد أعظم عَلَى الله الفرية) فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذاً: لم ير ربه -عَزَّ وَجَلَّ-بعينه
وأما آيات النجم فلو تدبرناها لعلمنا أنها واضحة الدلالة إن شاء الله والآيات هي: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)) [النجم:1-5] فالقضية قضية هذا الوحي، فالكفار يقولون: إنما يعلمه بشر، أساطير الأولين اكتتبها، ويقولون في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كاهن، ساحر، شاعر، كل ذلك قد قاله الكفار فالله -عَزَّ وَجَلَّ- يُقسم بالنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى، ومن الذي يعلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ تبين ذلك الآيات الأخرى ((إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)) [الحاقة:40]
إذاً: الرَّسُول الكريم هو رَسُول ((شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى))[النجم:5-11] فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أتاه جبريل بالوحي خاف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحصلت له فترة من الوحي، كما جَاءَ في الحديث الصحيح كما في كتاب بدء الوحي في البُخَارِيّ، فخاف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يدر ما هذا، فقد يكون شيطاناً وقد يكون ملكاً، وقد يكون ... فلا يعلمه لأول مرة، فمنّ الله تَعَالَى عليه في المجيء الثاني لجبريل بعد فترة الوحي بأن أتاه جبريل عَلَيْهِ السَّلام في صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق، ويتقاطر منه مثل الدر والياقوت عَلَيْهِ السَّلام فرآه رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حقيقته فاطمأنّ.